بائعُ الأمرَاء
كان نجم الدين الأيوبي حاكما شديد المراس ، وله أطماع واسعة فأراد أن يقوِّي جيشه ويحمي نفسه ؛ فاشترى (من بيت مال الدولة) المماليك الأتراك ودرَّبهم على الفروسيَّة والقتال حتى نالوا الحضوة والمكانة فاتسع نفوذهم وقويت شوكتهم وصاروا أمراء وقادة ، ولمَّا تولَّى العزُّ بن عبد السَّلام منصبه اكتشف الخلل في الإدارة والسُّلطة ، وأن القادة الأمراء لم يزالوا في حكم الرَّقيق لبيت المال ؛ وبالتالي عدم صحَّة ولايتهم وعدم نفوذ تصرُّفاتهم ، فأبلغهم بالحكم، ثمَّ أوقف تصرفهم ولم يمضي لهم بيعًا ولا شراءًا وتعطَّلت مصالحهم فاستشاطوا غضبًا وجاؤوه بالحُسنى والمساومة تارةً، وبالمكر والكبر تارة،ثم رفعوا أمرهم للسُّلطان فأرسل إلى العزِّ يُنكر عليه حكمه ، فعزل العزّ نفسه من منصبه وقرَّر الرَّحيل، فلحق به أهل القاهرة علماؤهم وتجَّارهم حتى النِّساء والصِّبيان وأعلنوا الوقوف معه،فقيل للسُّلطان : أدرك ملكك لا يذهب بذهاب العز! ، فأدركه السلطان واسترضاه ورضي بشرط أن يتمَّ بيع الأمراء في المزاد، ووقف العزّ يُنادي على الأمراء واحدًا واحدًا حتى ارتفع السِّعر إلى أقصاه فاشتراهم السلطان من ماله الخاصّ ليتملَّكهم ثم يُعتق رقابهم ، فصاروا أمراء أحرارًا واحتفظ بهم قادة ، وقبض العزّ الثَّمن ووضعه في (بيت المال) . ومن هنا اشتهر في التَّاريخ ببائع الأُمرَاء !
لا يزال حبُّ السُّلطة والجاه وعُلوِّ كرسي الوظيفة يتغذَّى على بعض النُّفوس فيطغيها الاستعلاء والشَّرَه الذي حرق معيار النـَّزاهة بالسعي وراء فَرض قواعد ملائمة لمصالح الأثرياء، وما ذلك إلا سرقة لثروات الدول وسرقة لأحلام شعوبها . والمتأمل في الاتجاهات الحديثة يجدها مشارب تكاد تكون متناقضة مع الاتفاق بينها على أنَّ الفساد أصبح ظاهرةً عالميَّة ذات جذور وأبعاد يصعب التمييز بينها ، لكن في الواقع قد يتسامح المجتمع مع الكثير من عمليات الفساد السَّائدة على مستوى السُّلطة أو على مستوى الوزارات أو المؤسسات ولا يزال يسري ويتسع حتى صار داءًا مُزمنا يحاول علاجه المخلصُون .
إنّ مفهوم الفساد بمعناه الواسع لا يمكن الاتفاق عليه ولكن يمكن القول بأنَّه إساءة استعمال السلطة العامَّة أو الوظيفة والتَّلاعب بها بهدف تحقيق المصلحة الخاصَّة . وما يجنيه الشَّخص من ذلك السلوك من أرباح ماديَّة طائلة على حساب المجتمع ، وما يتبع ذلك من آثار سلبية تتجسد في ازدياد صورة الانحراف عبر شبكات تتاجر وتقامر باقتصاد ومقوِّمات الدولة ؛ من خلال إضعافِها داخليًّا والعبث بمقدَّراتها . اضافة إلى استمرار التَّعامل بالطُّرق الملتوية واتِّساع رقعة الجشع والاحتيال والنَّصب، ممَّا يُمثل عائقًا كبيرًا في طريق التَّنمية ، وما يولِّده من تشوُّهات اقتصادية غير مسبوقة . وعندما تفقد الأنظمة غطاءها ويهمش دورها ؛ بل يختفي عند أعتاب المصالح المشتركة فإن بذور الفساد تنمو بسرعة وتحصد الثمار قبل بدو الصلاح! حتى تُماط الأقنعة عن فضائح طويت على محاولة أصحاب الثَّروات الخاصَّة التأثير في بيروقراطية الدولة وأجهزتها واستحواذ المسؤولين على أجزاء من الاقتصاد دون ان يتعرضوا لأي مساءلة . وعندما ينتهك المسؤول تلك القواعد النظامية فهذا مؤشر على أن القوى المقابلة في السِّياسة والاقتصاد ضعيفة ومهمَّشة ؛ غير أنَّ الحكومات تبقى مصادر مهمة لتنفيذ القرارات والعقوبات إذ لولم تكن كذلك لما اكترث الكثيرون من إفسادها، وعندما تفشل الحكومة في آداء هذه الوظائف بقوَّة وعدالة فإن ذلك يمثل مشكلة خطيرة .
إن مشكلات الفساد في العالم تؤكد على دور الحُكم والسِّياسة في حلها ، إذا أردنا لمزايا التَّغيير السِّياسي والاقتصادي أن تتوزع بشكل عادل ، خصوصا وأن المجتمعات التي تمُر في مرحلة تحوُّل يكون وضع الحُدود لها وإعادة رسم المسارات فيها يشكل تحديا خطيرا في كيانها.
لذا على الحاكم أن يأخذ على أيدي السارقين لأموال الدولة والمفسدين فيها ﴿وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَة ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [آل عمران:19] . فبيت المال ملك عام والقائمون عليه هم أمناء على حفظه وتحصيله ولاخلاف في أن من أتلف شيئا من أموال بيت المال بغير حق كان ضامنا لما أتلفه وإن اخذ شيئا بغير حق لزمه رده أو رد مثله إن كان مثليا أو قيمته إن كان قيميا والخلاف في قطع يده والجمهور على عدمه. ولعل ما قال عمر رضي الله عنه يكون بمثابة القاعدة في التعامل مع بيت المال حيث قال:”إني أنزلت نفسي منزلة اليتيم إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف” .