الأمير الفاتح وقراءة المستقبل
كان الأمير الفاتح من أعظم سلاطين المسلمين ومن أروع قادة الحضارة الإسلامية في القرون الخمسة الأخيرة، تسلَّم في أوج شبابه قيادة أعظم امبراطوريَّة إسلاميَّة تقف وحدها مدافعةً عن المسلمين بعد سقوط الدَّولة العباسيَّة وانهيار دولة المماليك، فقد كان محورًا للسِّياسة الدوليَّة وصاحب الكلمة الأولى في العالم كلِّه آنذاك، علاقاته السِّياسية والحربيَّة مَلئت الأصقاع، فوطَّد السِّيادة الإسلاميَّة وبدَّد أحلاف الصَّليب حتى شاع لقبه في أوروبا بــ (السَّيد العظيم).
كانت فكرة فتح القسطنطينيَّة قد راودت الكثير من الخلفاء والقادة، ولم يكن وراء تلك الحملات ومحاولات الفتح التي خاضوها سوى نيل شرف البشارة في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم:(لتُفتحنَّ القسطنطينَّية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش)،فكان الإيحاء الدائم للأمير الشاب بأنَّه هو المقصود في هذا الحديث وقد رافقه هذا الخاطر منذ صغره، وعندما أصبح سُلطانا على بلاد المسلمين توجَّه فورًا إلى التَّحرك بجيوشه لتحقيق الهدف بعد أن أرسى قواعد مشروعه العظيم بأن هيَّأ جيشا فذًّا واعيا يحمل همَّ نيل الشَّرف من مدح الرسول، ووضع الخطط البارعة المبتكرة لمسيرة الجيش العسكريَّة والسياسية ورسم الخطط الاستراتيجيَّة (قصيرة وبعيدة المدى) لبناء المدينة بعد فتحها وحَشْد العقول والمواهب إليها وجعلها من أعظم مدن زمانها . ففكَّر ورسم وخطَّط حتى لاحت فكرةٌ فريدة لنقل السُّفن من مرساها في بشيكتاش إلى مضيق البسفور بجرها برًّا “فكان منظر هذه السُّفن بأشرعتها المرفوعة تسير وسط الحقول كما لو تمخُر عُبَاب البحر فكان من أعجب المناظر وأكثرها دهشة” وعندما تأكَّد الأمير الفاتح من تنفيذ خططه قام بزيارات مفاجئة لأطراف جيشه وأوقد الثِّقة في صفوفه وقال مقولته المشهورة: “وعن قريب سيكون لي في القسطنطينية عرشٌ أو يكون لي فيها قبر”، وقد جاء في بعض ما نسب إليه شِعره العذب:
أَطلِّي لَيْلة المعراجِ في أسرار أكوَاني
أطلِّي كالرَّحيق البِكْرِ في أزهَار أغصَاني
وقد كانت تتردد عند البيزنطيين أسطورة تقول: “ستسقط القسطنطينية عندما تُرى السُّفن تمخُر على اليابسة” وقد تحقَّقت، استيقظ أهل المدينة على تكبيرات المسلمين.
إن قراءة المستقبل واستشراف أحداثه تضع أمام القادة الفُرص لوضع الخُطط المدروسة والاستعداد المبكِّر لتخطِّي الأخطار وتحقيق النَّجاحات، وهذا ما فعله الأمير الفاتح حين انكبَّ في صغره يدرس حديث الرَّسول والذي لا شكَّ قد قرأه من كان قد سبقه من الملوك والخُلفاء ولكن قليلٌ من يحاول تجديد طريقة التَّفكير وتغيير منهج المحاولة لتبقى هذه الفرصة المستقبلية بانتظار هذا الأمير الذي انقدح في قلبه أنّه من سيفتح المدينة وتربَّى على أنَّه الفاتح، فجعل من هذه القضيَّة محور الحكم وأدار رحى الدَّولة بأجمعها لتحقيق حُلُمٍ كان في بدئه أكبر من تصوُّر المسلمين. إنَّ القيادة السياسيَّة الشابَّة في شخصيَّة الأمير الشَّاب والتحمُّل المبكِّر لمسؤوليات الحُكم وإدارته لهو الدَّور المهم لخلق بيئات مناسبة (لبَدء مرحلةٍ جديدة من التَّطوير والعمل الجادِّ واستشراف المستقبل ومواصلة السَّير في ركاب الدُّول) ممَّا يضمن لها الهيمنة والاستمرار.
وقد كان لهذا النَّوع من البشر-ممن تطرأُ عليهم خواطر وإيحاءات بأنَّهم سيكونون شيئا ما … في زمن ما… استباقًا للزَّمن واختراقًا لحجاب الغيب بمحض عطاء الخالق -عقولٌ قد مُنحت قُوى جبَّارة لمعرفة ما سيأتي من أحداث وقد لا يكون لهم بين البُسطاء قبُولا أو فهمًا خصوصًا حين تكون الأحوال في نظرهم غير محمودة، لكنَّه نظرٌ بعيد … وحركةُ تدبير … تمتلك الأعين البصيرة على مجريات الحال؛ في نظرةٍ تكامليَّةٍ واحدة تبعث الأمل بأنَّ القادم أفضل من الحاضر، وتدفع للعمل بيقين الظنِّ، وحقيقة الحلم … وهذا ما يصنع الحضارات ويكتب من أجلها التَّاريخ.